بعد 100 يوم من اعتقال بن غيث .. متى نتحرر من ثقافة الخوف من حرية الكلمة؟

بعد 100 يوم من اعتقال بن غيث .. متى نتحرر من ثقافة الخوف من حرية الكلمة؟

أحمد الشيبة النعيمي

التقيته في مجلسه بعد أيام قليلة من إطلاق سراحه من معتقل ظل حبيسه لمدة تسعة أشهر. كان أول لقاء لي به، لم تكن لنا أي صلة ببعض قبل اعتقاله، ولكنه حين اعتقل هو وإخوانه في القضية التي عرفت بالمواطنين الخمسة، هرعت لأرى كتاباتهم ونشاطاتهم التي أبهرني فيها عمق الطرح، وحس المسؤولية الوطنية، والجرأة الكبيرة التي عانقت مقالاتهم.

لم يكن لقائي به عاديا، فلقد شعرت أني أعرف ذلك الرجل منذ عقود، وأعجبني فيه فهمه ووعيه بالواقع الاقتصادي والسياسي للإمارات، وتشخيصه للحالة بعمق يبهر السامع. وأكثر شيء لحظه الحضور الغفير في مجلسه الذي عمر بالمهنئين أن أشهر السجن والتعذيب لم تفت في عزيمته، بل كان ثابتا على مبادئه، مصرا على جهده الرامي للإصلاح، وصدق في كل جهوده وكلماته. لقد استمر حتى عاودت الأجهزة الأمنية محاولة حبس صوته قبل مئة يوم ليغيب ويتوارى عن الأنظار في رحلة جديدة من انتهاكات حقوق الإنسان في أقبية الأجهزة الأمنية بسبب تغريدة. 

 حين تضيق حرية النقد والتعبير بتغريدة رأي في الفضاء الإلكتروني، وحين يكون الضحية مفكرا كبيرا وخبيرا اقتصاديا نادرا بحجم الدكتور الأكاديمي ناصر بن غيث، وحين تغيب كل المعايير والآليات القانونية والعرفية في الاعتقال والإخفاء القسري، وتختفي كل المعلومات عن الضحية، عندما يحدث هذا كله، وتطال الاعتقالات كل الأحرار والشرفاء، يتحول الوطن إلى سجن كبير في غابة متوحشة، ومهما أغدقت الدولة على رعايا هذا السجن بالترفيه مع حرمانهم من أبسط الحقوق الإنسانية، فإن جميع أنواع الرفاهية تفقد قيمتها حين يحاول الإنسان التعبير عن إنسانيته، وتجاوز الرغبات الحيوانية البدائية التي يشترك فيها مع غيره من المخلوقات...

  وحين يفتقد الإنسان إنسانتيه وقدرته على تجسيد هذه الإنسانية بالتفكير الحر والشعور بالكرامة والتمتع بحرية التعبير؛ فإنه يصل إلى المرحلة التي يتساوى فيه وجوده وغيابه. فتقييد الحرية هو نوع من أنواع الإعدام الذي يعدم شخصية الإنسان، ويحافظ على حياة حيوانية مهددة بالتعذيب النفسي بل والجسدي أحيانا..

  إن تحويل الوطن إلى سجن كبير يتجاوز فيه جهاز الأمن كل القوانين والأعراف تعكس حالة الفشل والإخفاق في التعامل مع الرأي الآخر، فعندما يعجز اللسان عن الرد ومقارعة الحجة بالحجة تتحرك اليد الأمنية لتعبر عن شعور الطرف العاجز بالإفلاس فيلجأ إلى أساليب الجبناء في محاولة حجب الرأي الآخر، ومصادرة كل الحريات في عالم الفضاء المفتوح، وعصر ثورة المعرفة والمعلومات التي أصبحت معها محاولات كبت الرأي الآخر محاولات عبثية طفولية تهدف إلى إشباع غرائز انتقامية لبعض المنتفعين المتسلطين على الأجهزة الأمنية لا غير ...

 عندما يسيطر جهاز الأمن على كل وسائل الإعلام العملاقة، ويمتلك المال وخبراء الترويج للسياسات وصناعة الإعلام، وخبراء توجيه الرأي العام، ومع ذلك يرتجف مذعورا من تغريدة شاردة هنا أو هناك، ويعلن حالة النفير، ويحاول تكميم كل الأفواه، وينتهك كل القوانين المحلية والدولية والأعراف الاجتماعية، فإن هذا الجهاز يكشف عن حالة من الإفلاس الأخلاقي والشعور بالخواء الداخلي والإدراك بأن كل أدوات تزييف الحقيقة التي تهدر المليارات من ثروة الأمة يمكن أن تنهار بتغريدة واحدة يقولها إنسان حر وصادق ...

إنه الشعور بالخوف والذعر من الحقيقة رغم كل مظاهر القوة وامتلاك كل وسائل التضليل، فإن منطق الحق يفقد المتسلطين صوابهم فيتصرفون بطريقة تكشف بوضوح غياب ثقتهم بأنفسهم وأكاذيبهم وانهيار ثقتهم بكل آليات تضليل الرأي العام...

 وفي جميع الأحوال ما لم تتصالح الدولة مع منطق الحقيقة والمصلحة العامة، وتتصالح مع قيم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان وثقافة الإصلاح، فإنها لن تتوقف عن التخبط والشعور بالخوف والذعر من كل كلمة حق تقال هنا أو هناك، وليس هذا عصر تكميم الأفواه، وليس أمام السلطة إلا التصالح مع أعراف المجتمع وقيم العصر والقيم والقوانين الإنسانية، والله من وراء القصد..

(عربي 21)

الكاتب