الدعاة وتحرير الوعي

الدعاة وتحرير الوعي

أحمد الشيبة النعيمي

أمام طوفان التضليل الإعلامي الهادف إلى تزييف وعي الأمة يجب أن تتظافر جهود جميع المخلصين في سبيل تحرير الوعي، وتبصير المجتمع بالحقائق وتنمية الوعي الناقد تجاه حملات التضليل والغزو الإعلامي والفكري.

وفي هذا السياق، يتصدر الدعاة ورجال التربية والإصلاح المسؤولية الكبيرة في التصدي لهذا الطوفان؛ لأن رسالة الدعاة والمصلحين المحورية هي إحقاق الحق وإبطال الباطل، ويستحيل إحقاق الحق عندما تنعدم الرؤية الحقيقية للواقع، وينجح التضليل في تصوير الباطل حقا والحق باطلا، ويتم التلاعب بالعقول بتقديم ما حقه التأخير، وإهدار الأوقات في اللغو والصراعات الثانوية والجدل الفارغ، والركض المحموم وراء اللذات الفانية والوقتية.

ونظرا لعظمة هذه الرسالة في التصدي للتزييف والتدليس، فقد جاءت أول آية في القرآن الكريم تدعو إلى القراءة ليتعلم الإنسان ما لم يعلم، وتزول عنه غشاوة الجهل، ويبصر الحقائق كما هي لا كما تصورها أبواق الدعايات والتضليل.

 وطالب القرآن الكريم بعد ذلك المؤمنين بعدم التلقي السلبي للمعلومات والشائعات، وضرورة فحص المعلومات، والتأكد من مصداقيتها، وعدم اتخاذ أي قرار بناء على معلومات غير دقيقة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ".

وهذا نبي الله سليمان عليه السلام يعلمنا كيفية دراسة الأخبار واختبار صدقها من كذبها قبل اتخاذ أي قرار عملي، فعندما قال له الهدهد "أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ" لم يتقبل الخبر دون تمحيص وتدقيق بل قال "سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ".

 ومن أجل أهمية الصدق في نقل الحقائق أكد القرآن الكريم على أنه لا يفتري الكذب إلاّ الذين لا يؤمنون. وأكدت السنة المطهرة أن خطيئة الكذب لا تجتمع مع الإيمان في قلب واحد، وأكد نبينا الكريم أن الكذب يهدي إلى الفجور وأن الفجور يهدي إلى النار، وكانت وظيفة الدعاة ورجال التربية والإصلاح على مر التاريخ إنقاذ الناس من النار، وتربيتهم على الصدق، وحمايتهم من ممارسة الكذب أو الوقوع فريسة له.

ومن يقرأ التاريخ ويطلع على الأدوار التاريخية التي قام بها الدعاة والمصلحون في مواجهة تزييف الوعي يجد الكثير من الأمثلة الناصعة على ممارسة الدعاة لوظيفة تحرير الوعي، ومن أمثلة ذلك موقف شيخ الإسلام ابن تيمية في التصدي للتتار حين حاول بعض علماء السوء والسلاطين ترويج احتلال التتار لبلاد الإسلام والتسويق لدعاوى مزيفة عن دخولهم في الإسلام لتخدير الشعور الإسلامي بخطر احتلالهم لأراضي ومقدسات المسلمين، فتصدى بقوة لهذه الأكاذيب، وفضح حقيقة دعاويهم والغرض منها، وتواصل بعد ذلك مع الدولة الإسلامية في مصر، ونجح في تجييش الجيوش لمواجهة التتار وحماية ديار الإسلام والمسلمين..

 وكذلك فعل العز بن عبد السلام حين استولى المماليك على السلطة السياسية للمسلمين، فأصر على تحريرهم أولا من العبودية كما يتم تحرير الرقيق احتراما للحقيقة الموضوعية قبل دخول المعركة مع الغزاة والمستعمرين، وكان له الفضل بعد ذلك في تجييش طاقات الأمة للجهاد ومقاومة الاحتلال.

وما زال العلماء والدعاة الصادقون يقومون بأدوارهم في العصر الحديث في تبصير الشعوب بالحقائق، ومواجهة التضليل الإعلامي، وتحرير الوعي من الهيمنة الاستعمارية، والتلاعب بالعقول، وتضييع الأوقات في اللهو الفارغ والمعارك الهامشية.  

وفي مقابل ذلك، كانت وظيفة الاستبداد صناعة المنافقين والأفاكين الذين تتوفر فيهم جميع علامات النفاق "إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".

واستخدام هؤلاء الأفاكين في تضليل المجتمع وتزييف الحقائق وتخدير الوعي الاجتماعي من الإحساس بالمخاطر الحقيقية التي تهدد وجوده وهويته، وتضخيم مخاطر وهمية ومزيفة لصرف الأنظار عن الكوارث الحقيقية التي تهدد المجتمع، وتحويل المصلحين إلى أعداء وخصوم، واستهدافهم بالتشويه، والحرب المعنوية، والسجن، والتعذيب، وجميع الانتهاكات.

ومن الأمثلة الواقعية على هذه الممارسات الاستبدادية ما يتعرض له اليوم في الإمارات ضحايا حرية التعبير من الدعاة والأكاديميين والخبراء الاقتصاديين وغيرهم من حملات تشويه واعتقالات، وبعض حالات الإخفاء القسري، والحرمان من جميع الحقوق المادية والمعنوية.

فالأنظمة التي تعتمد في ممارساتها الاستبدادية على إغراق المجتمع بسيل جارف من الأكاذيب والشائعات تدرك خطورة تحرير وعي المجتمع، وتشعر بحالة من الهلع تجاه كل دعوة هادفة إلى تبصير المجتمع بالحقائق وتحرير الوعي من التضليل والتدليس، لأنها تعتقد واهمة أن حبائل الكذب والخداع يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، وأن شمس الحقيقة لا يمكن أن تشرق في ظلمات التزييف، وأن سفينة الصدق ستغرق في طوفان الكذب، والله غالب على أمره ولكن أكثرهم لا يشعرون..

الكاتب