الثورات العربية تنتظر عقيدتها السياسية
عبد الفتاح ماضي
ما ينقص الثورات التي أشعلتها الشعوب العربية هو التفاف الثوار وكل من له مصلحة في تحقيق أهدافها حول مرجعية عليا وعقيدة سياسية واحدة يتم على أساسها بناء نمط جديد للسلطة، والتأسيس لإعادة توحيد المنطقة من جديد.
ليس للثورات المضادة في عالمنا العربي بعد خمس سنوات من اندلاع الثورات العربية من أجل الحرية والكرامة والعدالة أي مستقبل، لأنها ضد حركة التاريخ وتعبر عن ردة إلى الوراء، ولم يُكتب لمثيلاتها بالقرن العشرين أن تنجح، رغم أنها كانت أكثر ذكاء وحكمة. فالثورات المضادة تعزز بشكل متسارع التناقضات التي أوجدها نمط السلطة التي أقامته الدويلات القطرية في النصف الأول من القرن العشرين.إن ما ينقص الثورات التي أشعلتها الشعوب العربية هو التفاف الثوار وكل من له مصلحة في تحقيق أهدافها حول مرجعية عليا وعقيدة سياسية واحدة يتم على أساسها بناء نمط جديد للسلطة، والتأسيس لإعادة توحيد المنطقة من جديد.
سنن الكون
تستهدف الثورات، مثلها مثل كل حركات الإصلاح الحقيقية، إعادة بناء السلطة في المجتمع على أسس مختلفة تماما عما كان سائدا قبلها، استنادا إلى ثلاثة أركان رئيسية على الأقل كما تخبرنا التجارب التاريخية.
الأول: العقيدة السياسية، فما من كيان سياسي أو حضارة إلا وقامت على مرجعية عليا يتم تطويرها عبر عملية تاريخية ممتدة، تعبر عن تطور اجتماعي معقد وتتفاعل فيها العقول مع احتياجات الواقع وتظهر خلالها سلسلة من التوافقات الوطنية الواسعة.
وتظهر المرجعية في شكل مبادئ أساسية وقيم عليا يستند إليها الأفراد والجماعات والسلطة بمؤسساتها المختلفة في تحديد معايير الانتماء والهوية الجامعة، وأدوات الضبط السياسي والاجتماعي في المجتمع، وطبيعة العلاقات بين الجماعات والأفراد داخل المجتمع وبين هؤلاء والسلطة، واختيار الأولويات في مرحلة تاريخية معينة.
وهذه العقيدة بهذا المعنى لا يمكن لا فرضها على (ولا استيرادها من) الآخرين دون عمليات توطين ومواءمة.
هكذا سارت الأمور في كثير من الحضارات القديمة والحديثة مع اختلاف سند مرجعياتها من كهنوتية دينية (كالحضارات القديمة في مصر وبابل وآسيا وفي أوروبا العصور الوسطى) أو إسلامية (تجمع بين مبدأ التوحيد والقيم الدينية التي تنظم الدين والدنيا وبين العقل وحرية التفكير والإبداع في إنزال هذه القيم على الواقع المتغير زمانا ومكانا) أو وضعية (كالحضارة الغربية الحالية التي تقوم على مبادئ عصر التنوير الأوروبي).
الثاني: المؤسسات السياسية، وهي لا تنشأ من فراغ وإنما كنتاج لتطور تاريخي ممتد وثمرة لصراعات وتوازنات مختلفة بالمجتمع، وتعبيرا عن تلك المرجعية وأداة لتحقيق غاياتها.
وتأخذ هذه المؤسسات شكل مجموعة من القيم والقواعد والإجراءات والممارسات والحوافز والجزاءات التي تنظم علاقات السلطة وتدير الصراعات بين الرؤى المختلفة بطرق سلمية، وتحدد آليات وتفاصيل عملية الحكم، كشروط ومؤهلات الحكام والموظفين العموميين، وكيفية مراقبتهم ومحاسبتهم، وكيفية ممارسة السلطة واتخاذ القرار وحدود هذه القرارات.
ولهذا ليس من المتصور، مثلا، أن تصدر المؤسسات الحاكمة في أميركا أو فرنسا قانونا يخالف قيمة جوهرية من قيم الفلسفة الليبرالية (المرجعية العليا هناك) كحرية الرأي أو الملكية الخاصة.
وهذا الركن غير مطلق إذ أثبت التاريخ أن الحضارات تتفاعل بشأنه وتقتبس بعضها من بعض.
الثالث: الوحدة الطبيعية، أي مراعاة العوامل التي تربط بين الشعب الواحد كالعوامل الثقافية والدينية واللغوية والتاريخية والإثنية وغيرها.
وقدمت الحضارت الكثير من النماذج، منها الحضارة العربية الإسلامية التي ضمنت تنوعا وتسامحا وتعايشا ثقافيا ودينيا وعرقيا لم تشهده معظم الإمبراطويات السابقة عليها.
وفي القرنين الماضيين وصل الغربيون لمبدأ القوميات الذي يرفض نظريا تقسيم الأمة الواحدة إلى عدة دول أو تجميع عدة أمم في دولة واحدة، وعلى أساسه توحدت إيطاليا وألمانيا وظهرت دول قومية أخرى بكل قارات العالم.
الدويلات العربية القطرية المستبدة
دويلاتنا العربية التي ثارت الشعوب ضدها بعد عقود قليلة من ظهورها تمثل الشكل الأسوأ في تاريخ المجتمعات العربية والإسلامية، لأنها تناقضت مع الأركان الثلاثة السابق ذكرها.
أولا: نشأت الدولة القطرية بدون عقيدة سياسية متسقة مع ثقافة مجتمعاتها وتراثها، وهذ يتناقض مع سنن تكوين الدول ونظم الحكم من جهة، ويتجاهل تاريخ وثقافة المنطقة التي يشكل الإسلام الركيزة الأولى لها لا من حيث كونه دينا فحسب وإنما أيضا كوعاء حضاري ومعين قيمي وتراث تاريخي من جهة أخرى.
ولم تفلح فكرة القومية العربية بمفردها في القيام بالأدوار التي تقوم بها المرجعيات بالدول الحديثة، وأخطأ من تصور أن العقيدة السياسية للدولة الحديثة الغربية تجاوزت التراث الديني والتاريخي القديم، وأن الحداثة العربية تقتضي التخلي عن التراث العربي والإسلامي.
والأسوأ أن السلطة بالدويلات القطرية قامت بالسيطرة على الدين سيطرة تامة، ونزع الدين من المجتمع ومن الأفراد، وتوظيفه في خدمة السلطة، بجانب السيطرة على الجامعات والمؤسسات الدينية وتحويل العلماء إلى موظفين يعتمدون على السلطة في معاشهم وتعليمهم وترقياتهم بل وفيما يقولونه على المنابر. واليوم يحرم شيوخ السلاطين التظاهر ضد الثورات المضادة ويصفون الداعين إليها بالتخريب والتآمر.
لم يكن لهذه المعادلة مثيل حتى في الملك العضوض حيث ظلت معادلة هيمنة السلطة في البناء الاجتماعي والسياسي على حساب الدين، لكن لم يتم تأميم الدين، وظل للإسلام مساحة حرة، وظل العلماء يتمتعون باحترام السلطة لهم ولعلمهم، وظهرت مدارس ومذاهب فكرية متعددة، كما ظلت هُوية الدولة هُوية عربية إسلامية، وظل الحكام يرفعون هدف حماية الدين ونشر رسالته وخاضت الجيوش معارك للدفاع عن الإسلام. ورغم أن الدولة العثمانية أوجدت هيئات دينية تابعة كهيئة الإفتاء ظل الأمر إداريا ولم يقصد منه خلق هيئة تراتبية أو كهنوتية.
ثانيا: ظهرت الدويلات القطرية رافعة شعار أنها ستكون دولة على النمط الحديث، لكنها في الواقع جاءت على النقيض تماما، حيث أقامت سلطة قهرية مستبدة تعمل لمصالح ضيقة، ومرتهنة في بقائها على تحالفات مع قوى داخلية وخارجية معادية لتمكين الشعوب وثقافتها، وسيطرت أقليات (وراثية أو حزبية أو عسكرية) على السلطة والثروة، ولم تعرف هذه السلطة حتى المفهوم الإجرائي للعلمانية، أي الفصل بين الدين والدولة من الناحية الوظيفية مع عدم معاداة الدين.
ثالثا: ظهرت الدويلات القطرية في تناقض تام مع منطق وكيان الدولة الحديثة ومبدأ القوميات الذي يهتم أساسا بوحدة الشعوب، وفي ظل أوضاع جيوسياسية شهدت قيام الدول الاستعمارية بعملية خداع كبرى حيث وعدت العرب بدولة عربية موحدة بالمشرق مقابل دعمهم للإنجليز ضد العثمانيين بالحرب العالمية الأولى، إلا أن هدفها كان تمهيد الأرض لدولة يهودية في فلسطين وتقسيم المنطقة إلى دويلات بحدود مصطنعة وبمناطق متنازع عليها بين كل الدويلات تقريبا.
ليست هذه التناقضات بالشيء العابر، فقد ترتب عليها (ولا يزال) الكثير من التداعيات السلبية، كترسيخ التقسيم والحدود، وتسابق الأقليات الحاكمة على التحالف والتبعية للقوى الاستعمارية السابقة في ظل غياب الحد الأدنى من مقومات الدولة في معظم هذه الدويلات، بجانب تضرر الوحدة الثقافية والروحية بين شعوب المنطقة خاصة في ضوء الاختراق الثقافي الخارجي وعمليات غسل المخ والتلقين المذهبي التي تقوم بها أجهزة إعلام النخب الحاكمة، واستدعاء ثقافات فرعية ولهجات محلية لا تقوى بمفردها على الصمود في عالم يتحكم فيه الأقوياء وتستخدم فيه كل أدوات الثقافة للهيمنة والسيطرة. فضلا عن امتداد التناقضات إلى الدولة القطرية الواحدة واندلاع الحروب الأهلية والإقليمية.
يحدث كل هذا عندنا بينما نموذج الدولة القومية لم يعد قادرا على البقاء أمام تناقضات النظام الرأسمالي العالمي ونفوذ الشركات عابرة القوميات التي تكاد تقضي على مفهوم السيادة، واتجاه الدول القومية نحو التكتل كما في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية.
ما العمل؟
حققت الثورة أولى خطوات نجاحها بإدراك الشعوب أن بإمكانهم إسقاط الطغاة متى اتحدوا ضدهم، وبادخال الشعب في معادلة السياسة وكسر حاجز الخوف لدى قطاعات كبيرة منهم.
وستظل الشعوب تقاوم الطغاة والثورات المضادة التي تعمل ضد منطق التاريخ وضد الرابطة الروحية والدينية والثقافية واللغوية والتاريخية التي تجمع شعوب المنطقة، وما الثورات وكل صور الاحتجاج السلمية وغير السلمية إلا تعبير عن التناقضات التي تغذيها الثورات المضادة ومحاولة للخروج منها.
أمام ثورات العرب فرصة تاريخية للتغيير والتعبير عن موازين القوة الحقيقية التي تمتلكها هذه الشعوب. ولا يؤخر الشعوب إلا اختلاف نخبتها وقواها الحية واهتزاز بوصلة الثورة منهم، وعدم وجود عقل مدبر لها يدرك عمقها التاريخي ويستوعب معطيات واقعها ويستشرف آفاق وفرص النهوض.
ولن يتم هذا إلا عبر بناء مصالحات تاريخية بين كل التيارات الوطنية على اختلاف أيديولوجياتها وتطوير العقيدة السياسية للثورة انطلاقا من احتياجات الواقع الاجتماعي وحقائق التاريخ، والتي لن تتجاهل في اعتقادي العروبة والإسلام والديمقراطية.
"لا يؤخر الشعوب إلا اختلاف نخبتها وقواها الحية واهتزاز بوصلة الثورة منهم، وعدم وجود عقل مدبر لها يدرك عمقها التاريخي ويستوعب معطيات واقعها ويستشرف آفاق وفرص النهوض"
فالعروبة هي (بمقوميْها اللغة العربية والثقافة العربية) الهُوية الثقافية الجامعة لكل العرب، وليست مواقف وممارسات سياسية معينة تُنسب إلى فئة من الناس دون غيرهم. وهي الإطار الثقافي والاجتماعي الضروري لحماية الوحدة الوطنية لكل بلد عربي وصد الانقسامات التي تُفرز اضطرابات وحروبا أهلية، وهي السياج الحامي للمجتمعات العربية أمام طغيان النزعات المادية ومحاولات فرضْ ثقافة معينة على كل أمم الأرض وشعوبها.
أما الإسلام فهو (كإطار حضاري) الوعاء الذي أخرج الوطنية والعروبة من محاور القبيلة واللون والعرق والمكانة الاجتماعية إلى رحاب الانتماء الثقافي والحضاري الواحد الذي أرسى دعائمه عرب الجزيرة العربية المسلمون، ثم ساهم فيه مسلمون غير عرب من الفرس والأكراد والأتراك والبربر، ومسيحيون ويهود عرب وغير عرب.
وأيضا الإسلام كدين سماوي سبق الأمم الأخرى في إيداع مهمة بناء المجتمع وتدبير المصلحة العامة في عقول الناس بعد أن حررها من العبودية للنظريات الكهنوتية ومن جبابرة الأرض وقدّم أسس حكم القانون والحرية والعدل والشورى ومقاومة الظلم ومساءلة الحكام والشفافية والفصل ببن المال العام والمال الخاص.
ويكتسب الانطلاق من الديمقراطية، كنظام للحكم، وليس كفلسفة أو مذهب سياسي، أهمية كبرى، لأن هذا النظام ساهمت في تطويره حضارات شتى، بما في ذلك الحضارة الإسلامية، بجانب أنه لا يمكن تجاهل مكتسبات الحضارة أثناء تطوير نظم حكم وطنية حديثة تنظم العملية السياسية وتحمي الحريات والحقوق وتمهد الطريق لظهور حكومة عربية اتحادية واحدة تدير التنوع العربي وتضع مجتمعاتها على بداية طريق النهضة المنشودة.
(الجزيرة نت)