فاشينال تايمز .. ثورة السودان فتحت الصراع الخليجي في القرن الأفريقي على مصرعيه

فاشينال تايمز .. ثورة السودان فتحت الصراع الخليجي في القرن الأفريقي على مصرعيه

قالت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية إن الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط لا سيما بين كل من الإمارات والسعودية من جهة وقطر وتركيا من جهة أخرى يتصاعد في القرن الأفريقي، ويتجلى ذلك في إقدام دول الخليج العربي على الاستثمار بشكل كبير في تلك المنطقة الفقيرة من العالم.

وتستدرك الصحيفة قائلة إن حملة القمع التي يشنها المجلس العسكري في السودان جعلت سياسات التدخل التي تنتهجها دول الخليج في منطقة القرن الأفريقي موضع مراقبة.

وتشير في تقرير مطول إلى أن قادة المجلس أرادوا بفضهم اعتصام المحتجين السلميين أمام مقر القيادة العامة للجيش في الخرطوم بالقوة، إيصال رسالة مفادها أنهم لن يرضخوا للضغط الشعبي من أجل القبول بنقل السلطة إلى المدنيين.

ويتساءل العديد من النشطاء السودانيين هل أعطت بعض دول الخليج -وخاصة السعودية والإمارات- المجلس العسكري الضوء الأخضر لفض الاعتصام؟

وتضيف الصحيفة أنه مع أن السعودية والإمارات تنفيان بشدة علمهما المسبق بفض الاعتصام، فإن تلك العملية أثارت تساؤلات ونقاشات حول دور البلدين في السودان، وسياسات التدخل التي يتبعانها وإنفاقهما مئات الملايين من الدولارات لشراء امتيازات لإدارة موانئ ومرافق بنية تحتية أخرى في دول القرن الأفريقي.

وتنقل عن طبيب سوداني يُدعى سلمان أسامة أن كل المشاكل التي يعاني منها شعب السودان مردها إلى السعودية والإمارات ومصر.

ويضيف أسامة الذي كان يعالج جرحى فض الاعتصام، أن تلك الدول كانت تدعم نظام الرئيس المخلوع عمر البشير "الذي سامنا سوء العذاب، وهم الآن يدعمون" المجلس العسكري أيضا.

فبعد الهجوم الذي شن على المعتصمين أمام مقر القيادة العامة السودانية ممن كانوا يطالبون بتسليم السلطة للمدنيين بعد تولي الجيش السلطة في نيسان/أبريل عقب الإطاحة بالرئيس عمر البشير، أشير بأصابع الاتهام لقوات الردع السريع، وهي صورة جديدة عن ميليشيات الجنجويد التي ارتكبت فظائع في إقليم دار فور بداية العقد الأول من القرن الحالي. وتقول عائلات الضحايا إن عددا من المعتصمين ضربوا وجرى اغتصاب نساء ورميت جثث عدد من القتلى في نهر النيل.

وكان القمع رسالة من المؤسسة العسكرية أنها لن تستجيب لمطالب نقل السلطة. ولكن قوات الردع السريع لم تكن هي الجهة التي تعرضت للنقد وكشف عن دورها في القمع وضرب قوى الديمقراطية؛ ففي الوقت الذي أحصى فيه المعتصمون قتلاهم حرفوا نظرهم لداعمي المجلس العسكري الانتقالي: السعودية والإمارات

وأشار الكاتبان إلى المكالمة التي جرت بعد يومين من المجزرة بين ديفيد هال المساعد لوزير الخارجية، والأمير خالد بن سلمان نائب وزير الدفاع السعودي، شقيق محمد بن سلمان، حيث ناقش معه القمع للمتظاهرين وضرورة النقل السلمي للسلطة.

 

وأصدرت الخارجية الأمريكية لاحقا بيانا وصفت فيه المجزرة بـ”الوحشية”. وتنفي السعودية والإمارات أي معرفة مبدئية بالهجوم على المعتصمين وتؤكدان العلاقات السياسية والاقتصادية مع السودان الذي يعتبر جسرا بين العالم العربي وإفريقيا ولديه ساحل طويل على البحر الأحمر.

ومع ذلك، لم ينج البلدان من التساؤلات حول دورهما الجديد في سودان ما بعد البشير، الذي جاء في وقت ينفق فيه البلدان مئات الملايين على عقود مجزية لتطوير الموانئ بالقرن الإفريقي. وقال الجراح السوداني سلمان أسامة (27 عاما) الذي عالج الجرحى بين المعتصمين: “كل مشاكلنا هي من السعودية والإمارات ومصر”. وقال إن هذه الدول كانت تدعم البشير في قمعه للسودانيين وهي نفسها التي تقوم بدعم النظام الجديد.

وقبل عشرة أيام من التحرك ضد المعتصمين، استقبل محمد بن سلمان في جدة محمد حمدان (حميدتي) دقلو -الذي يترأس قوات الدعم السريع- في جدة.

وفي الأسبوع نفسه، سافر رئيس المجلس العسكري الانتقالي الجنرال عبد الفتاح البرهان إلى مصر والتقى الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، الحاكم الفعلي للإمارات. وتعهدت السعودية والإمارات بدعم المجلس العسكري بـ3 مليارات دولار وانضمتا إلى مصر لدعم المجلس العسكري.

ويشعر السودانيون أن هذه الدول تعمل على قمع الديمقراطية في بلادهم، رغم دعوتها للحوار البناء. لكن الجنرالات هم الذين يستثمرون الدعم لحماية مصالحهم ومصالحها، بما في ذلك المشاركة السودانية في حرب اليمن.

وفي تقرير لمجموعة الأزمات الدولية ببروكسل جاء: “يعرف السعوديون والإماراتيون الجنرال حميدتي والبرهان لقيادتهما القوات السودانية في اليمن”، وتثق السعودية والإمارات “بقدرة الجنرالات على قيادة البلاد خلال الفترة الانتقالية بطريقة تتجنب الفترة الفاصلة التي حدثت في مصر عام 2011 وبنتيجة غير واضحة أدت لفوز الإخوان بالانتخابات، وتهميش الذين يريدون إصلاحات شاملة بين المدنيين”.

ونفى الجنرال صلاح عبد الخالق، أحد الأعضاء السبعة في المجلس، أي نوايا سيئة في دعم دول الخليج: “إنهم يقفون معنا سياسيا لأنهم يريدون التخلص من النظام الإسلامي الذي كان يحكم السودان”، في إشارة للإسلاميين الذين دعموا البشير عام 1989، ولكن الذين قادوا التظاهرات ضد النظام هم من الشباب والمدنيين.

إلا أن عادل الجبير، وزير الشؤون الخارجية السعودية، ألمح إلى إمكانية تأثير الإسلاميين، وقال: “كان الإخوان المسلمون انتهازيين؛ فهم الذين اختطفوا التغيرات في مصر عام 2011″، و”أعتقد أنهم سيحاولون عمل الشيء نفسه في السودان”. وتشير الصحيفة إلى محاولات السعودية والإمارات، ومنذ عام 2011، تشكيل المنطقة على صورتهما بعد الانتفاضات التي أرسلت هزات وزلازل ضد الأنظمة الأتوقراطية في مصر وليبيا والحروب التي اندلعت في اليمن وسوريا.

ورأت أبو ظبي والرياض في الثورات إشارة على ضرورة التدخل لمواجهة الإسلام السياسي الذي تعتبرانه تهديدا وجوديا مع التأثير الإيراني؛ ففي مصر دعمتا القوى التي أطاحت بالرئيس المنتخب محمد مرسي، ثم ضختا المال إلى الجيش الذي أطاح به عام 2013. وتوفي مرسي في شهر يونيو/حزيران 2019 في قاعة المحكمة. وأكد توقيع باراك أوباما الاتفاقية النووية مع إيران عام 2015 مخاوف كل من السعودية والإمارات وتأثيرها في المنطقة، وهو موقف يدعمه جنرالات السودان الجدد.

ويقول عبد الخالق: “لا نريد سيطرة إيران على اليمن” و”من واجبنا مواجهة الجماعات الشيعية”. وفي عام 2017، فرضت السعودية والإمارات حصارا على قطر بتهمة التعاطف مع الإسلاميين والتقارب مع إيران، كما أن علاقة قطر مع تركيا أضافت بعدا جديدا للصراع على القرن الإفريقي، خصوصا أن تركيا لديها مصالح فيه.

وقال وزير الدولة في الخارجية الإماراتية، أنور قرقاش، إن الهجوم على المتظاهرين في الخرطوم هو محاولة “لتعزيز التوازن”، وإن “التحدي الأكبر في هذه البلدان، كما شاهدنا من تجربة الربيع العربي، نابع من الكيفية التي يحقق فيها التغيير الشعبي والحفاظ في الوقت نفسه على استقرار المؤسسة”.

ويشير التقرير إلى العلاقات التاريخية الاقتصادية والدينية بين منطقة القرن الإفريقي ودول الخليج، حيث تم الاتجار بالمواشي والجمال والبخور وغير ذلك بينهما، فيما عبر الحجاج ولقرون البحر الأحمر وخليج عدن لأداء الحج في مكة، فدول المنطقة الصومال والسودان وجيبوتي ذات غالبية مسلمة مع تجمعات كبرى للمسلمين في إريتريا وإثيوبيا.

ومع تطور العلاقات، استخدمت السعودية وقطر والإمارات موارد النفط لتمويل مشاريع في الدول الإفريقية، وفي محاولة للاستفادة من الأسواق الكبرى فيها. ولكن المصالح القومية كانت واضحة، مثل الاستفادة من المصادر الزراعية والموانئ فيها.

وقال زاك فيرتين، من معهد بروكينغز في الدوحة، إن زيادة العلاقات السياسية والاقتصادية والإستراتيجية غير مسبوقة، مضيفًا: “هذا عن تحول المنطقتين لواحدة”. وأهم مثال هو الصراع على الموانئ؛ ففي عام 2014 حصلت شركة “البيرق” على حقوق إدارة ميناء مقديشو، وردت شركة دبي للموانئ العالمية بتوقيع عقود مع مناطق شبه مستقلة مثل بونت لاند وصومالي لاند. وفي عام 2017 حصلت تركيا وقطر عام 2018 على عقود لتطوير موانئ في السودان.

وترى الصحيفة أن البحر الأحمر الذي يفصل إفريقيا عن الجزيرة العربية ظل منطقة تنافس؛ ففي عام 1888 أقامت بريطانيا محمية في صومالي لاند لحماية السفن التجارية القادمة من آسيا وعبر قناة السويس. ويقول وزير خارجية الصومال السابق سعد علي شير إن التنافس الحالي هو من أجل استعراض القوة والتحكم بالتجارة كما في القرن التاسع عشر. وقال: “كان الاهتمام موجودا، لكن الإمارات وتركيا اليوم دولتان ثريتان وتريدان إظهار أنهما قوة يحسب لهما حساب في المنطقة”. وتعبر نسبة 8% من التجارة العالمية من وإلى ميناء باب المندب. وتعتبر الإمارات الأكثر نشاطا؛ فبالإضافة لإدارتها كلا من ميناء باساسو وبربرة أقامت قاعدة عسكرية في عصب بإريتريا و6 موانئ على الجانب الآخر من البحر الأحمر.

وتعهدت الإمارات بمساعدات مالية بقيمة 3 مليارات دولار العام الماضي لإثيوبيا، وساهمت مع السعودية بحل خلاف عمره 20 سنة بينها وبين إريتريا. ويرى قرقاش أن التوسع الإماراتي في القرن الإفريقي يتساوق مع تحول بلاده لمركز التجارة والمال في الشرق الأوسط.

 

وقال: “كل شيء له علاقة بحقوق الطيران والمناطق الحرة والمخازن والموانئ هو جزء من الرواية التي تشير لنجاحنا”، و”لهذا علينا الوصول إلى 100 مليون إثيوبي بحاجة إلى أكثر من ميناء”. إلا أن التجارة هي جزء من القصة؛ فمنذ التدخل في اليمن عام 2015 رأت السعودية والإمارات أنهما بحاجة لداعمين على طرفي البحر الأحمر للتدريب ونشر الجنود. ففي ديسمبر/كانون الأول عقدت السعودية اجتماعا ضم مصر وجيبوتي والأردن وإريتريا واليمن والسودان للبحث في تحالف يحمي مصالحها ومصالح “جيرانها” – “تحالف البحر الأحمر”.

ويرى أحمد سليمان، الباحث في “تشاتام هاوس” في لندن، أن اجتماع التجارة والأمن والخطوط الجيوسياسية الفاصلة يعني “عسكرة” القرن الإفريقي، ويعني جر دول القرن الإفريقي إلى التنافسات الإقليمية. فعندما قررت السعودية والإمارات قطع العلاقة مع قطر طلب من بقية الدول في المنطقة اختيار طرف. فمحاولة الحكومة الفيدرالية في الصومال الوقوف على الحياد لم يكن كافيا للرياض وأبو ظبي، إذ نظر إليها بأنها تقف مع قطر وتركيا.

وقال الشيخ محمد عبد الرحمن آل ثاني، وزير الخارجية القطري، إن “بعض الدول، خصوصا التي تحتاج للدعم السعودي والإماراتي، تعرضت للابتزاز واتباع السياسة نفسها من قطر”. وقبل سقوط البشير، وجد السودان نفسه وسط الأزمة في الخليج، حيث بردت العلاقات مع الإمارات والسعودية عندما رحب الرئيس السابق بقطر وتركيا لتطوير الموانئ السودانية.

ومع رحيل البشير سارعت الدولتان إلى تقوية العلاقات، وبالمقارنة باتت علاقات الدوحة مع السودان “محدودة” كما يقول الشيخ عبد الرحمن. ويرى فيرتين من بروكينغز أن الإمارات والسعودية تريان علاقات قوية مع السودان وتشكيل المرحلة الانتقالية. وبالنسبة للمعارضة السودانية التي ترى أن هذه الدول مهتمة بمصادر البلاد وموقعها الإستراتيجية، فنظام ديمقراطي يعني صعوبة تحقيق غايات الدول الخارجية.

الكاتب