رحلة نتنياهو في البحث عن حلول عربية
كشف المستشار الإعلامي في مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، عن جهود تبذلها أمريكا لفتح ممر بحري لنقل الإغاثة الإنسانية إلى قطاع غزة انطلاقا من قبرص، حيث التقى المسؤولون الأمريكان بنظرائهم في نيقوسيا لبحث إمكانية فتح الممر البحري الذي اقترحه في وقت سابق وزير خارجية الاحتلال إيلي كوهين؛ قبل تخليه عن المنصب للوزير الحالي يسرائيل كاتس.
وأكد كيربي والمسؤولون في الإدارة الأمريكية أن أمريكا لن ترسل قوات عسكرية للإشراف على نقل البضائع وتشغيل الميناء العائم في مدينة غزة، ما يعني أنها لا زالت تبحث عن آلية تتوافق وأجندتها السياسية للحرب وما بعدها، للإشراف على عملية تفريغ البضائع في غزة التي يُتوقع أن تخضع للتفتيش في موانئ قبرص الرومية.
الكيان الإسرائيلي بدأ رحلة البحث عن الجهة المشغلة لميناء غزة العائم في أبوظبي، بإرسال وفد ضم سكرتير نتنياهو العسكري آفي غيل، ومنسق الاحتلال للمناطق المحتلة غسان عليان. فأبو ظبي تملك خبرة في تشغيل الموانئ، ما يجعلها خيار الكيان المفضل لإيجاد حلول لمعضلات الحرب ويومياتها، والتي قد تطول بحسب نتنياهو لتمتد عشر سنوات من التطهير العرقي والإبادة في قطاع غزة.
أبو ظبي كانت ولا زالت وجهة نتنياهو المفضلة للبحث عن ممرات برية بديلة عن باب المندب لنقل البضائع، وفي البحث عن أجوبة للأسئلة الأمريكية الصعبة لليوم التالي للحرب في قطاع غزة إداريا ولوجستيا.
فقادة الكيان الإسرائيلي يفضلون أبوظبي على الدوحة في إدارة ملف قطاع غزة على اعتبار أن أبوظبي تملك ميزة إضافية لا تملكها الدوحة، إذ ترفض أبوظبي التعامل مع المقاومة الفلسطينية على رأسها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بسبب مرجعيتها الفكرية والسياسية وفقا لتصورات نتنياهو، كما أن أبوظبي متحفظة جدا في علاقتها مع سلطة رام الله، خصوصا أن أحد معارضيها (محمد دحلان) يحظى برعاية واهتمام أبوظبي.
الأهم من ذلك امتلاك أبوظبي خبرة ثرية وواسعة بالصراعات في اليمن والصومال وليبيا والسودان، ما يجعلها المرشح الأوفر حظا في إدارة الميناء وحمايته إن تطلب الأمر بحسب التصورات الإسرائيلية على الأرجح بل والأمريكية.
في المقابل، فإن الدور الإماراتي المقترح يتوقع أن يوتر العلاقة مع السلطة الفلسطينية بحكم الخلافات التي تجمع قادة السلطة بالقيادي المفصول محمد دحلان، إذ يهدد بتهميش دور السلطة بعد أن أدت ما عليها من فروض للإصلاح بإقالة حكومة محمد اشتية، التي علق عليها المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر بالقول: إن الولايات المتحدة "ترحب بالخطوات التي اتخذتها السلطة الفلسطينية لإصلاح نفسها وتجديدها"؛ في حين أعلنت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين البدء بإجراءات تحويل الدفعة الأولى من أموال الضرائب إلى السلطة الفلسطينية في اليوم التالي لاستقالة اشتية.
هذه التطورات لم تغير أو تعدل من موقف نتنياهو الرافض لإعطاء دور سياسي أو إداري لسلطة رام الله في الضفة أو في قطاع غزة، ما دفع وزير خارجية السلطة رياض المالكي للتصريح بالقول: إن "السلطة الفلسطينية هي الإدارة الشرعية الوحيدة التي ستعمل في غزة من الآن فصاعدا، وستكون هناك إدارة فلسطينية في غزة تماما كما هو الحال في الضفة الغربية"، رافضا بذلك أي محاولة لتجاوزها والقفز على دورها، بحسب تصريح نقلته وكالة الأناضول التركية.
وأعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قبيل زيارته واشنطن ولقاء نظيره الأمريكي؛ أن الوقت حان لوقف الحصار والتجويع لقطاع غزة، بإجراءات أحادية إن تطلب الأمر، وهي تصريحات تبعت الإعلان عن زيارة الوفد الأمريكي إلى قبرص، خصم أنقرة، للتباحث حول تشغيل ميناء غزة.
التدافع حول غزة إقليميا ودوليا سواء للتعامل مع يوميات الحرب وما بعدها؛ بلغ مستوى عاليا من التعقيد والتحركات الاستباقية، التي تحاول من خلالها الإدارة الأمريكية والكيان الإسرائيلي التحكم بمدخلات الحرب والعدوان على غزة قبل مخرجاتها، في سياق من التنافس بين إدارة بايدن وحلفائه في حكومة الطوارئ وأبرزهم بيني غانتس، مقابل نتنياهو وشركائه في الحكومة (بن غفير وسموتريتش) من جهة أخرى.
وفي سياق من التنافس والتصارع الإقليمي الخفي بين دول المنطقة وأجندتها السياسية والأمنية التي تتخذ أبعادا جيوسياسية؛ تأكدت أهمية المواجهة الدائرة مع الاحتلال في قطاع غزة والضفة الغربية، فالتدافع لا يقتصر على أمريكا ودول الإقليم، إذ يشمل القوى الدولية بما فيها روسيا، والصين التي أكدت حق الشعب الفلسطيني بالمقاومة المسلحة، وأكد وزير خارجيتها وانغ يي بأن ما يجري في القطاع "مأساة للبشرية ووصمة عار على الحضارة، في القرن الحادي والعشرين".
ختاما.. إن رحلة نتنياهو للبحث عن حلول في أبوظبي لأزماته السياسية والأمنية اقترنت بالصراع مع خصومة في واشنطن والتدافع في الإقليم، واضعا أبوظبي في مركز الصراع وبؤرته الإقليمية، ما يتهدد بتوتير علاقات أبوظبي بدول الإقليم ومكونات الساحة السياسية الفلسطينية التي (قد) تبعث اليسار الفلسطيني من مراقده المقدسة باعثة تجاربه مجددا، فالصراع والتدافع الإقليمي والدولي في قطاع غزة بلغ مستويات دموية قادرة على بعث الروح في ظواهر اختفت وتلاشت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، مثيرة بذلك عاصفة تشبه ما أثاره الحوثيون في المنطقة، فالتاريخ مختبر تجارب البشرية وأسوأ كوابيسها في الآن ذاته.