التطبيع "خيانة" ومقاومته "أمانة".. قاموس المقاومة 

التطبيع "خيانة" ومقاومته "أمانة".. قاموس المقاومة 

باستعراض الكتابات التي اهتمت بمسألة التعريف والوقوف على عالم المفاهيم؛ يعني التطبيع، اصطلاحا، جعل ما هو غير طبيعي طبيعيا. ولا يعني التطبيع "إعادة الأمور إلى طبيعتها"، كما يظن البعض، فكلمة "طبّع"، تعني جبْل الإنسان، أو المجتمع، أو الحالة المستهدفة مجتمعيا، على طبْعٍ ما، كثيرا ما لا يكون أصيلا في الهدف المراد تطبيعه، حتى يصبح ذلك الطبع "دمغة" أو "طبعة" وربما "صبغة" ملاصقة له، وإلا لما احتاج الأمرُ إلى تطبيعٍ لو كانت تلك الصفة المستجدة من سجاياه الأصلية؛ تبقى المعضلة الخلافية سياسيا في تحديد ما يعد طبيعيا، وما يعد غير طبيعي، ومن وجهة نظر من؟ هل التعامل مع الاحتلال بصورةٍ طبيعية مثلا، أي من دون حواجز ولا عداء، أمرٌ طبيعي؟

لا شك في أن الاحتلال وداعميه يرغبون بشدة في تصوير التعامل العادي والسلمي معه بأنه أمرٌ طبيعيٌ، لأن ذلك يمثل اعترافا بـ"الأمر الواقع"، أي بالاحتلال ومشروعيته وقوانينه؛ أما الواقعون تحت الاحتلال، الحافظون لتوازنهم، فمن الطبيعي أن يروا التطبيع مع المحتل شذوذا؛ ومن هنا، لا غبار أن نقول بأعلى صوت "لا للتطبيع مع العدو الصهيوني"، أي "لا" لجعل العلاقات مع المحتل طبيعية متطبعة، من دون حواجز ولا عداء؛ وغاية الأمر أن يجعل المسالمة حتى مع الاغتصاب والاحتلال أمرا طبيعيا؛ وأن الأمر الذي يتعلق بالمدافعة والمقاومة أمر يشكل خروجا على الطبيعي ويسلك مسلك الشذوذ والذي يُسمى في عرفهم إرهابا؛ ألا ساء ما يحكمون؛ أرأيت كيف يعتدون على سنن التدافع الماضية والقوانين السننية الباقية؟

نتحدث هنا إذا عن برامج ممتدة أو خطة عمل مسبقة، متعددة المسالك المُوردة للمهالك، تبدأ بعمليات تبرير وتمرير؛ يعقبها تكيف وتكييف وتسكين ذلك المصطلح وتلك الكلمة الخبيثة في شجرتها الخبيثة التي ليس لها إلا أن تُجتث من فوق الأرض قبل أن تتغلغل وتتمكن وتترسخ؛ فلا يكون لها من قرار أو استقرار أو استمرار.

هذه الحالة المتسللة في خبث والملتفة في خداع تعمد إلى كسر الحاجز بين أهل العدوان والاغتصاب، وبين الضحية الواقع عليها الاحتلال والاستيطان والعدوان، فيهدف تكريس هذا التطبيع اللئيم إلى إبراز الشخصية الصهيونية أو "العربية" المطبّعة والمتصهينة إعلاميا، ويلحق كل هذا بدعاية وترويج بـ"توزيع جوائز فردية لمن ينتهكون محظورات التطبيع مع الاحتلال رياضيا وفنيا وثقافيا وتجاريا، فإذا تحققت غاية التطبيع يُطرحون جانبا كمنديلٍ ورقيٍ مستعمل".

إنّ استراتيجية كل تلك الأدوات هي تجاوز حالة التدافعات والدفاعات المجتمعية والشعبية والجماهيرية باختراقات فردية، في البداية، يمكن أن تصبح رؤوس جسورٍ عائمة لإعادة برمجة الوعي المجتمعي نفسيا ومعنويا وثقافيا وتطبيعيا، إن لم تحاصَر وتعزل؛ فتتمدد وتتسلل في ساحات أخرى ومساحات متنوعة، ويلي ذلك وضع برامج عامةٍ تستهدف القطاعات المجتمعية كافة.

فتنة التطبيع الحادثة الفاشية والمنتشية بما تفعل؛ تبدأ من مصطلحه ولفظه، فهو بدعة طارئة تريد التلبيس والتدليس على الناس، وجعل ما ليس طبيعيا أبدا في الخانة العادية والطبيعية، فالطبيعي مع العدو القاتل والمغتصب والمحتل هو المقاتلة والمدافعة والمقاومة، وهذا في جميع قوانين وأعراف البشر وفي السنن الإلهية الماضية، فكانت الشعوب المقاومة تسمي المتعاون مع المستعمر المحتل الغاصب "خائنا"، فكيف قبِل البعض اليوم أن يكون المتعاون مع العدو الصهيوني -المحتل لفلسطين والمسجد الأقصى- في المجال الاقتصادي والسياسي والعسكري والثقافي والسياحي والمخابراتي والتعليمي.. مطبعا، رغم أنه لم يحدث تحرير ولا استقلال، وأصبحت الخيانة تعقلا ورشدا وسياسة وكياسة؟

فالتطبيع مع العدو في مثل هذه الأحوال مرفوض ومدان في العقول والفطرة السليمة والشرائع السماوية منها والأرضية، ووصم الخيانة لا يمكن نزعه أو اقتلاعه بحال في وصف هؤلاء من المتصهينة، خاصة حينما يأتي كل ذلك في مناخ من انهيار عربي شامل، وضعف فلسطيني رسمي من سلطة فلسطينية مهترئة متخاذلة تزيت بزي مفاوضات سلام وهي في الحق والحقيقة -مفاوضات إن كانت هناك مفاوضات- تنازلات واستسلام غير مسبوق يقوم على قاعدة التعاون الأمني الذي يسلم أهله بخساسة لعدوه.

التطبيع في هذه الحال خيانة؛ لا نستنكف استخدام هذا الوصف في حق مرتكبيه ضمن سلوك من البجاحة والتناحة ألفوه وروّجوا له من دون حياء أو استحياء؛ وبعقلية الرجاء لمن يتمنى رضا عدوه فيركن إليه ويكون أداة من أدواته المرجفة والمخذلة التي تفت في عضد الأمة وكيانها.

ومن أخطر ما يحمله خطاب التطبيع هو ما يحمله من وصف العدو والعدوان بحق الكيان الصهيوني في الدفاع عن النفس؛ بينما يسمي المقاومة والمدافعة إرهابا ويحاول أن يلصق كل نقيصة بالفلسطينيين وقضيتهم. إن ما يمارسه هؤلاء في حرب التسميات؛ وبما يحدثه خطاب التطبيع هو انقلاب في عالم الكلمات والمفاهيم والمصطلحات؛ فالعدوان يُسمى دفاعا عن النفس والمقاومة للعدوان والاحتلال يسمى إرهابا أو هو عمل لا جدوى له أو منه من حيث التأثير وموازين القوى. هذا الخطاب المفتعل يستوجب خطابا مضادا يسمي الأشياء بمسمياتها.

التطبيع بأحواله المتطورة الذي تتبناه الولايات المتحدة ودول الغرب بالتبني المباشر، وخطة التطبيع بحيث تجاوز هذا التبني الغربي والخطاب التطبيعي المراوغ والزائف الذي يمارس عملية تزوير كبرى؛ يتجاوز القضية الفلسطينية إلى رسم خريطة نفوذ جديدة في المنطقة كلها؛ "التطبيع": تأبيد وجود إسرائيل.

يؤكد "رازي نابلسي" في مقالته المهمة "التطبيع تأبيد وجود إسرائيل" أن اختبارا من الكيان الصهيوني لمواجهة الفلسطينيين يرتكز على "عقيدة نتنياهو" التي تقوم على مبدأ استخدام القوة في موازاة تهميش القضية الفلسطينية، مما سيؤدي إلى تسليم العرب بحقيقة وجود إسرائيل وعدم جدوى استمرار مقاطعتها، وتاليا يدفع الفلسطينيين إلى التسليم والتوقيع، والبرهان على ذلك هو التطبيع مع الإمارات والبحرين تحت مسمى "اتفاقيات أبراهام" التي تشكل "عقيدة نتنياهو" تجسيدا لها في بناء شبكة مصالح قائمة ّعلى القوة وفرض أمر واقع على المنطقة. ويظهر موقع "عقيدة نتنياهو" في المشروع الصهيوني من خلال خطاب نتنياهو أمام جلسة الكنيست المخصصة للمصادقة على اتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين، إذ قال: "هناك (أي في الاتفاق مع الإمارات والبحرين) احتمالات للسلام غير القائم على تنازلات إسرائيلية؛ سلام قائم على ردع إسرائيلي دائم، ومستند إلى تعزيز دائم للقوة.

يغدو التطبيع أهم من أي وقت مضى بالنسبة إلى رؤية نتنياهو، وإلى التوقيت الذي هو، على ما يبدو، ملائم للإجهاز كليا على القضية والحركة الوطنية الفلسطينيتين، ولقتل الأمل بالانتصار على الصهيونية، وذلك عبر تجفيف جميع منابع القوة الفلسطينية، بهدف القضاء على الهوية الفلسطينية كليا؛ وبذلك تستطيع إسرائيل الاعتقاد أنه لم يعد أمام الفلسطينيين إلا القبول بالأمر الواقع: تكريس الحكم الذاتي الثقافي؛ العيش على هامش الدولة اليهودية؛ ّ قبول الأمر الواقع (status quo) القائم. أما إسرائيل فيعني ذلك لها: استمرار التوغلات الاستيطانية؛ السيطرة الاقتصادية؛ الهيمنة اليهودية؛ وتكريس وضعية "الأبارتايد"، حيث تتحول فلسطين كقضية الى عملية تصفية تحت عنوان التسوية، وإقامة "الدولة اليهودية" النقية، فتغدو "صفقة القرن" تحصيل حاصل، سواء وافق عليها الفلسطيني أم لم يوافق.

وفي الحقيقة أن أشكال التطبيع مع تراكمه والهرولة وتدفقاته التطبيعية تتميز عن بداياتها، ذلك أن التطبيع العربي الأخير مع الكيان الصهيوني اختلط باستراتيجيات وخطط الصراع على الهيمنة الإقليمية، إذ تشكّل إيران طرفا رئيسيا فيه؛ يترافق مع إعادة تموضع أمريكي قد يتخذ في بعض أشكاله انسحابا متدرجا للولايات المتحدة من المنطقة وتجنبها لدخول في صراع عسكري جديد في الشرق الأوسط؛ فضلا عن حالة عربية منهارة تعيش ثورات وثورات مضادة وحروبا أهلية وفوضى وتحالف دول الاستبداد؛ وحالة فلسطينية منهارة إلا من مقاومتها الفتية المحاصرة التي تواجه العدو الصهيوني الذي يشكل خالة استيطانية شرسة ترافقها عنجهية دينية وقومية في إسرائيل التي تتصرف كقوة إقليمية.

وفي هذا الظرف، يغدو التطبيع الإسرائيلي- البحريني/ الإماراتي، أقرب إلى تحالف سياسي عسكري، منه إلى عملية تطبيع تقليدية كما في "وادي عربة" مع الأردن، أو حتى "كامب ديفيد" مع مصر. وهذا الأمر أكدته تصريحات نتنياهو، أن هذا الحلف تأسس على ما أسماه "المصالح المشتركة والخطر المشترك والتعاون الاستراتيجي، كما يؤكده العديد من الأبحاث السياسية التي نشرتها مراكز أبحاث تدعو إلى الارتكاز إلى ما يسمى "الخطر الإيراني" كأساس لبناء تعاون استراتيجي مع ما يسمى "المحور المعتدل" الذي يُقصد به المطبعون من نظم رسمية.

التطبيع بهذا الاعتبار "حالة يكمن في خلفها خطط واستراتيجيات" و"عملية بل وعمليات" و"علاقات تتطور وربما تصير تحالفات" و"سياسات" و"مسارات" و"مؤسسات وأدوات" و"مجالات" و"عقبات وتحديات" و"تدافع وتدافعات" و"مقاومة ومواجهات" و"آثار ومآلات"، كل ذلك وضمن هذه الامتدادات التي تتعلق بالفعل التطبيعي؛ فإن الأمر يستحق الدرس والفحص، في ضوء كل هذا فإن التطبيع بأشكاله المختلفة خيانة ومقاومته ومدافعته أمانة.. وللحديث بقية.

الكاتب