"الإمارات 94" .. 11 عاماً من المحاكمة الجماعية الجائرة

"الإمارات 94" .. 11 عاماً من المحاكمة الجماعية الجائرة

يصادف يوم 2 يوليو 2024 الذكرى السنوية الحادية عشر للأحكام القضائية التي أصدرتها المحكمة الاتحادية في أعقاب المحاكمة الجماعية الجائرة التي عرفت إعلامياً باسم " الإمارات 94"، والتي تضمنت إدانة 69 مواطنا من نشطاء، وأكاديميين، ومحامين، وطلبة، ومدرسين، بتهمة التخطيط للإطاحة بالحكومة. 

وقد أصدرت المحكمة بحقهم أحكاما طويلة بالسجن وصلت إلى 15 عاماً. لكن هذه المحاكمة التي تعد أضخم محاكمة جماعية بتاريخ الإمارات، شابتها عيوب شديدة، منها احتجاز المتهمين بمعزل عن العالم الخارجي مدداً وصلت إلى سنة، وتعذيبهم من أجل انتزاع اعترافات منهم، إضافة إلى انتهاكات أخرى كثيرة.

فما هي قصة محاكمة "الإمارات 94"؟ وكيف بدأت؟ ولماذا مازالت توابعها مستمرة حتى اليوم؟.. هذا التقرير المطول يرصد القصة الكاملة للمحاكمة الجماعية "الإمارات 94".

كيف بدأت القصة؟

تعود جذور قضية "الإمارات 94" إلى مارس 2011 حينما وقعت مجموعة من الأكاديميين والمحامين ينتمي أغلبهم إلى جمعية "الإصلاح والتوجيه الاجتماعي" (الإصلاح)، على عريضة إلكترونية موجهة إلى رئيس الدولة تطالب بإجراء إصلاحات ديمقراطية وقانونية، تشمل منح الشعب الإماراتي الحق في انتخاب أعضاء المجلس الوطني الاتحادي، بالاقتراع المباشر بدلًا من اختيارهم بانتخابات غير مباشرة وبالتعيين وتوسيع صلاحياته وتحويله من هيئة استشارية إلى هيئة تشريعية.

كان هدف الموقعين على العريضة الذي بلغ عددهم 133 إماراتياً مطالبة السلطات الإماراتية بإنشاء برلمان ديمقراطي، وإعطاء تلك الهيئة سلطات تشريعية وتنظيمية كاملة، والمضيّ بالإصلاحات الديمقراطية والاستقلال القضائي الكامل، وذلك وفقاً لما تنص عليه ديباجة الدستور الإماراتي.

أطلقت العريضة ردا رسميا قمعيا لا هوادة فيه من جانب السلطات الإماراتية التي أطلقت العنان منذ ذلك الحين لحملة تهدف إلى قمع المعارضة والاعتداء على حقوق الإنسان.

وشملت قائمة المستهدفين بالحملة ناشطين وأنصارا سلميين للإصلاح الديمقراطي، بالإضافة إلى أفراد عائلاتهم الذين حاولوا مناصرة ذويهم من خلال الكشف عن الانتهاكات التي ترتكبها الدولة بحقهم.

 في الشهر التالي لصدور العريضة، اعتقلت أجهزة الأمن الإماراتية 5 ناشطين بارزين، معظمهم لم يوقّعوا على العريضة، وحُوكموا بتهمة "إهانة رموز الدولة" بسبب مقالات نشروها على الإنترنت.

تطورت قضيتهم لاحقًا ليُعرَفوا بـ"الإماراتيين الخمسة"، وحُكم عليهم جميعًا بالسجن 3 سنوات، لكن صدر عفو أميري عنهم في اليوم التالي.

في منتصف 2011، تحولت الحملة القمعية مباشرة إلى جمعية "الإصلاح"، حيث تلقت حصة الأسد من القمع، وجرّدت السلطات 7 من أعضائها من الجنسية على نحو تعسُّفي لأسباب أمنية غير محددة، وأُمروا بمغادرة البلاد، اُحتجر 6 منهم على الأقل بمعزل عن العالم الخارجي لشهور دون تهمة، لرفضهم التوقيع على تعهُّدات بأنهم سيتقدمون للحصول على جنسية جديدة.

في حينها، نشر الشيخ سلطان بن كايد القاسمي، ابن عم حاكم إمارة رأس الخيمة، وكان آنذاك رئيس جمعية "الإصلاح"، مقالًا انتقد فيه السلطات لقرارها تجريد السبعة المعروفين باسم "الإماراتيون 7" من جنسيتهم، وكتب: "إن إسقاط الجنسية عنهم لا يضرّ فقط بالمواطنين السبعة، بل يضرّ أيضًا بهيكل الدولة والتماسك المجتمعي ككل".

وفي أبريل 2012 اقتحم مسلحون منزله، وطلبوا منه التوقيع على اعتراف يدينه بمعارضة النظام لكنه رفض حتى قراءة الوثائق، فتم احتجازه في الحبس الانفرادي في أحد قصور ابن عمه حاكم رأس الخيمة، لتتصاعد بعدها الاعتقالات.

موجة اعتقالات

مع اعتقال القاسمي، بدأت الضغوط تتزايد على جمعية "الإصلاح"، حيث قام جهاز أمن الدولة باعتقال 94 إماراتياً، واحدًا تلو الآخر، واُقتيدوا إلى أماكن مجهولة، وتم احتجازهم بمعزل عن العالم الخارجي لأشهر قبل أن يُسمح لهم بإجراء اتصالات هاتفية مع بيوتهم، لإخبار عائلاتهم بأنهم ما زالوا على قيد الحياة. 

وفقد بعضهم وظيفته، وجرى التشهير ببعضهم في وسائل الإعلام، وطُردت زوجات العديد منهم من وظائفهن، بينما فُصل أطفال بعضهم من المدارس، كما فُرض حظر على سفر العديد من أقاربهم ومُنعوا من مغادرة البلاد.

توالت بعد ذلك الاعتقالات التي طالت معظم الموقعين الآخرين -ومعظمهم من الإصلاح- على العريضة، واتهمتهم السلطات بالتواصل مع جهات أجنبية للإساءة إلى سمعة الدولة، وأنهم على علاقة بجماعة الإخوان المسلمين بهدف التمويل، وأنهم يسعون إلى الاستيلاء على الحكم.

لم تكتفِ السلطات الإماراتية بهذا الإجراء، بل سعت إلى تقويض نفوذ الجمعية على النقابات المهنية، وامتدت حملة القمع إلى المجتمع المدني، حيث أغلقت السلطات الإماراتية 4 منظمات غير حكومية بما فيها نقابتَي الحقوقيين والمعلمين، بدعوى انتهاك "المادة 16" من قانون الجمعيات لعام 2008، الذي "يحظر على المنظمات غير الحكومية وأعضائها التدخل في السياسة أو في الأمور التي تضر بأمن الدولة ونظامها الحاكم". 

انتهاكات حقوقية بالجملة

بدأت الانتهاكات القانونية بحق المتهمين في قضية "الإمارات 94" منذ اللحظة الأولى لاعتقالهم، حيث كانت تقوم مجموعة من عناصر أمن الدولة ترتدي زياً مدنياً بمداهمة بيوت المعتقلين وأماكن عملهم واعتقالهم دون إبراز مذكرة توقيف.

بعد الاعتقال كان المتهمون يتعرضون للاختفاء القسري، حيث اُحتجز ما لا يقل عن 64 منهم في سجون سرية تابعة لأمن الدولة لفترات تصل إلى عام كامل قبل المحاكمة.

أثناء احتجازهم في السجون السرية، تعرض المعتقلون لمختلف أنواع التعذيب، والتي شملت الضرب بأنبوب بلاستيكي في جميع أنحاء الجسد أثناء تقييدهم على كرسي، والتهديد بالصعق بالكهرباء، وتعرضوا للإهانة والإذلال في محاولة لإجبارهم على الاعتراف بأفعال لم يرتكبوها. 

كما تعرضوا للحبس الانفرادي المطول؛ وإلى ما يسمى بأساليب الاستجواب "المعزز" مثل الإضاءة عالية بشكل مستمر والتدفئة غير الكافية؛ هذا بالإضافة إلى سوء المعاملة من حراس السجن، والإذلال الممنهج، والتي كانت تشمل تغطية أعينهم عند نقلهم من زنازينهم، بما في ذلك أثناء نقلهم إلى دورات المياه أو للاستجواب. 

وظل المتهمون قيد الاحتجاز في موقع غير معلوم دون الاتصال بمحامٍ إلى ما قبل بدء المحاكمة بقليل، حيث ُنقلوا بعدها إلى سجن نظامي بناء على إيعاز من القاضي في ضوء تقدم المحامين والمتهمين بشكوى للمحكمة مفادها أنه يتم احتجازهم بمعزل عن العالم الخارجي في منشآت حجز سرية.

 كما اشتكى محامو  الدفاع من عدم إتاحة الوقت الكافي لهم لإعداد الدفاع عن موكليهم على الرغم من وجود المتهمين في الحجز منذ أشهر بل ومنذ سنة بالنسبة للبعض منهم، ولم يسمح للمحامين الاطلاع، على ملفات القضية إلا قبيل أربعة أيام من افتتاح جلسات المحاكمة. 

وعلاوة على ذلك، أدلى عدد من كبار المسؤولين بتصريحات قبل بدء المحاكمة أدانوا فيها المتهمين، ما قوّض من حقهم في فرضية البراءة.

فعلى سبيل المثال، أعلن حاكم إمارة رأس الخيمة، الشيخ سعود بن صقر القاسمي في أغسطس 2012 ما يلي: "نحن نملك الحق اليوم في إلقاء اللوم على عاتق هذه المجموعة ورفض خططهم الرامية إلى إلحاق الأذى ببلدهم وقيادتها وشعبها. فالإصلاح يعني بناء البلد وليس تدميره".

 وعلى نحو مشابه، فلقد نُقل في أغسطس 2012 عن حاكم إمارة الفجيرة حمد بن محمد الشرقي قوله: "إن هذ الفئة الجاحدة من الناس لا تهتم للتنمية والإصلاحات التي يزعمون أنهم يطالبون بها، ولكن همّها هو الإفساد في الأرض ونقل عدوى الأمراض من المجتمعات الأخرى وأزماتها إلى هذه الأمة. ونؤكد أننا جميعا نقف معا شعبا ومسؤولين في جميع الإجراءات الرامية إلى حماية بلدنا وشعبنا من جميع الشرور الواضحة والخفية منها،وردع كل من يريد أن ينحرف عن نهج المجتمع ونظام الدولة أو التدخل في منجزاتها".

تزوير الأدلة والتلاعب بها

إضافة إلى هذا الكم الكبير من الانتهاكات القانونية والتي تضمنت إكراه المعتقلين على التوقيع على اعترافات تدينهم، فإن نيابة أمن الدولة لجأت أيضاً إلى اختلاق أدلة وهمية والتلاعب بمحاضر التحقيق، واستخدامها كأدلة ضد المعتقلين.

على سبيل المثال، استخدمت نيابة أمن الدولة من ضمن أدلة الإثبات تسجيلاً صوتياً ادعت أنه صدر عن أحد المعتقلين، يدعو فيه صاحب الصوت للقيام بمظاهرات، ويتحدث عن "خطة إعلامية" لتحريك الرأي العام، لكن صاحب هذا الصوت في الواقع، لم يكن أحد المعتقلين، بل كان شخصا اسمه "خليل صقر"، تم تجنيده من أمن الدولة للإيقاع بالمتهمين.

ورغم أن الصوت الوحيد الذي يظهر في التسجيل كان صوت صقر، الذي لم يحاكَم أصلاً، وتبين أنه يعمل "مخبراً" لدى أمن الدولة،  فقد استخدمت المحكمة التسجيل كدليل إثبات ضد المتهمين.

كما زوّرت النيابة أيضاً محضر المضبوطات (الأحراز) في بعض الحالات لإضافة أدلة مزورة، وهو ما حصل مع القاضي أحمد الزعابي، ففي 27 مارس 2012 بعد اعتقال الزعابي بيومين، فتّشت قوة مؤلفة من 6 أفراد شرطة سيارته لضبط الموجودات فيها، وقد تم تحرير محضر بجميع ما تم ضبطه وإرساله للنيابة العامة، لكن المفاجأة أن النيابة قدمت في 3 مايو 2012 ضبط الموجودات إلى المحكمة، وأضافت عليه دليلاً جديداً، وهو قرص تخزين خارجي (USB) تم استخدامه كدليل ضد الزعابي خلال المحاكمة، علماً أن هذا القرص لم يكن ضمن المضبوطات التي تم تقديمها في 27 مارس.

وفوق ذلك، زوّرت النيابة أيضاً محاضرَ التحقيق، وغيّرت أقوالَ المتهمين، ومن الأمثلة على ذلك، ما حصل مع عبدالسلام درويش، حيث تلاعبت النيابة بأقواله وقامت بتزويرها من أجل إدانته، فعندما سألت النيابة دوريش: "هل شاركت في برنامج على قناة الحوار؟"، أجاب درويش: "نعم"،  لكن النيابة قامت لاحقاً باستبدال أقواله وكتبت في محضر التحقيق أنه "أقر بأن قناة الحوار تنشر فكر التنظيم".

مهزلة المحاكمة

بالإعلان عن المحاكمة، أفصح المدّعي العام أخيرًا عن السبب وراء حملة الاعتقالات، وقال في بيان إن المعتقلين "أطلقوا وأنشأوا وأداروا منظمة تسعى إلى قلب النظام السياسي في البلاد، بما يخالف المادة 180 من قانون العقوبات، وأن هذه الجمعية السرّية "وضعت هدفها التحريضي على الورق، لكنها تعترف بشكل غريب أن هذه الوثائق قد أُتلفت".

سعت السلطات لإقناع المحكمة بأن أعضاء الجمعية كانوا يخططون لتشكيل حكومة موازية، في حين ادّعى النائب العام الاتحادي، سالم سعيد كبيش، أن المدانين كانوا يعملون وفق أجندة سرّية للتسلل إلى المدارس والجامعات والوزارات، وأشار إلى أن النيابة العامة لديها أدلة على أن المتهمين أسّسوا منظمة موازية "أهدافها غير المعلنة كانت مواجهة المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم"، بحسب ما ذكر ممثلو وسائل الإعلام الإماراتية المحلية الذين سمحت لهم السلطات بحضور المحاكمة.

ضاعفت سلطات الإمارات الانتهاكات الجسيمة السابقة للمحاكمة من خلال الحرمان التعسفي لعائلات المعتقلين والمراقبين الدوليين ووسائل الإعلام الدولية من الوصول إلى المحاكمة، وقبل افتتاح المحاكمة في 4 مارس 2013 منع مسؤولو الأمن دخول أحمد نشمي الظفيري، المراقب الدولي للمحاكمة عن منظمة العفو الدولية، ونعومي كروتاز، ممثلة منظمة "الكرامة" لحقوق الإنسان ومقرها جنيف، حيث نجح العديد من المراقبين الدوليين في دخول البلاد، لكن السلطات منعتهم من دخول المحكمة، رغم امتثالهم للإجراءات المنصوص عليها وتقديم الوثائق المطلوبة.

استند ملف الإدعاء بالقضية بشكل أساسي على "الاعترافات المزعومة" التي انُتزعت من بعض المتهمين أثناء احتجازهم لفترات مطولة بمعزل عن العالم في مواقع سرية حرموا خلالها من الاتصال بالمحامي. 

ورغم أن المتهمين أعلنوا تراجعهم عن هذه الاعترافات في المحكمة وقالوا إن  القائمين على استجوابهم من جهاز أمن الدولة انتزعوها تحت التعذيب أو غير ذلك من أشكال الضغط والإكراه، لكن المحكمة قبلت الاستدلال بهذه "الاعترافات" كأدلة تثبت إدانة المتهمين.

 وبحسب نص قرار الحكم، اعتبرت المحكمة أن الاعترافات الرئيسية الواردة على لسان أحمد غيث السويدي وأحمد راشد الطابور كانت "صحيحة وأدلى بها صاحباها عن رغبة وفي حالة عقلية سليمة" وأن طبيعتها "الاعتذارية" تساند الاستنتاج الذي توصلت المحكمة إليه. 

كما رأت المحكمة أن جلسات الاستجواب الطويلة قد كانت "ضرورية بالنظر إلى خطورة الجريمة" على الرغم من احتمال أن تكون "قد تسببت ببعض النتائج المتوقعة على صعيد الحالة العقلية للمتهمين".

في النهاية ورغم كل العيوب التي شابت المحاكمة، أصدرت المحكمة الاتحادية حكمها بحقّ 94 شخصًا قدّموا للمحاكمة، وقضت بسجن 69 منهم لمدد من 7 إلى 15 عامًا، بأحكام غير قابلة للاستئناف، وبراءة 25 من بينهم 13 امرأة إثر محاكمة جماعية "فادحة الجور"، استندت فيها النيابة إلى احتجاز المتهمين بمعزل عن العالم الخارجي مددًا وصلت إلى سنة، والاعترافات المنتزعة بالإكراه كعنصر أساسي في الأدلة، وقبلتها المحكمة.

 وأثناء المحاكمة ووفق ما جاء في نص قرار الحكم الصادر في 2 يوليو 2013، فلقد اتضح أن متهمة واحدة قد وقع اتهامها عن طريق الخطأ نظرا للبس الحاصل لدى السلطات في الخلط بين هويتها وهوية امرأة أخرى.

 وعلى الرغم من إدراك الادعاء بوقوع خطأ في وقت مبكر أثناء التحقيق بشأنها في 30 ديسمبر 2012 فلقد تم استجوابها في يناير 2013 كما تقاعس القاضي عن إطلاق سراح المتهمة حتى بعد إثبات هويتها الحقيقية أمامه مع بداية المحاكمة وظلت تُحاكم إلى حين انتهاء المحاكمة ولتكون بعد ذلك ضمن من تمت تبرئة ساحتهم حينها.
 

الكاتب